قصر تفيلالت.. مدينة مستنسخة من العصور الغابرة
حياة بسيطة ومجتمع منظم في غنى عن الشرطة والمحاكم ومصالح البلدية .. قصر تفيلالت بغرداية.. مدينة مستنسخة من العصور الغابرة .. إنجاز استقطب اهتمام الأمريكان ووصفها الغربيون بـالمدينة الفاضلة
يمثل قصر تفيلالت أو المدينة الجديدة «تفيلالت» بغرداية تجربة إنسانية وعمرانية فريدة من نوعها في العالم العربي وإفريقيا، أو ربما في العالم أجمع، إذ يصعب كثيرا أن نتصور مدينة حديثة يعيش فيها الناس دون الحاجة إلى شرطة ومحاكم ومجالس القضاء ودون أن يحدث أيضا أيّ خلل في النظام العام للسكان الذين استنسخوا في هذه المدينة أساليب وحياة أجدادهم الأمازيغ في قالب الحياة العصرية
وأنت تدخل قصر تفيلالت تستوقفك أشكال العمارة الأمازيغية الأصيلة وألوانها المتناسقة، يستوقفك النظام المحكم وترحيب أهلها واحترام الإنسان الميزابي لمحيطه واعتنائه بكل من حوله وتتزاحم في ذهنك أسئلة الإعجاب والدهشة مجتمعة. ففي الوقت الذي تعاني فيه الجزائر من أزمة سكن خانقة، عجزت الكثير من البلديات والولايات على مجابهتها، تقدم تفيلالت أنموذجا حضاريا ملموسا عن تحدي الإنسان في التعامل مع الواقع بأصالة .
انطلق مشروع قصر تفيلالت في 13 مارس من عام 1997 وكان الهدف من المشروع، كما يقول الدكتور عبد الله نوح، »الحفاظ على النمط الأصيل للعمارة الأمازيغية المتميّزة، لقد حاولنا أن نكون تلاميذ نجباء لأجدادنا«، هكذا يقول الدكتور نوح، الذي تخصص في الصيدلة، لكن وجد نفسه يقود مشروعا يعد اليوم أنموذجا مطلوبا في كل أنحاء العالم، حتى أنه يرفض عندما يلقبه البعض بالمقاول ويفضل بدل ذلك كلمة »جميعية امدول« التي أخذت على عاتقها تسيير المدينة قبل وبعد الانجاز.
قصر تفيلالت هو محاولة حديثة لاستنساخ نمط مدينة بني يزقن المصنّفة في قائمة التراث العالمي من قبل اليونسكو عام 1982 وهذا قصد المحافظة على النمط العمراني والمعيشي للمدينة الأمازيغية الأصيلة من الاندثار.
تشكل تفيلات تجربة إنسانية جد خاصة بالمقاربات التي تطرحها، سواء اقتصاديا وثقافيا وحتى ايكولوجيا. تتربع المدينة على مساحة 22.5 هكتارا، منها 91574 متر مربع مساحة سكنية انطلقت بها الأشغال في عام 1997 لإنجاز 1000 مسكن، تم إنجاز 870 وحدة سكنية في انتظار إتمام البقية وهذا بالمساهمة والدعم الذي تقدمه الدولة للمشاريع السكنية، إضافة إلى مساهمة السكان، يقول السيد عبد الله نوج، الذي استقبلنا أثناء الجولة التي قادتنا إلى أحياء المدينة، أن الهدف من إنجاز المدينة هو إتاحة الفرصة أمام الطبقة المتوسطة في المجتمع الميزابي لامتلاك السكن، لأن الحي »ليس باش جراح وليس حيدرة« وهذا من خلال الاتفاق على مجموعة من المعايير التي يجب توافرها في المساكن التي تنقسم إلى مساكن فردية وعائلية تشيد حسب رغبة الأفراد وهذا استجابة لنمط الحياة العصرية، حيث صار الشباب أكثر ميلا للاستقلال بحياتهم. والدفع يتم على دفعات وأقساط بحسب مقدرة كل فرد.
يعتمد السكان في حياتهم اليومية في القصر على نفس أنماط التسيير التي تميز بها المجتمع الميزابي طوال قرون من الزمن، حيث لكبار الحي سلطة تسيير الحياة اليومية على أسس من المفاهمة والعرف الذي لا يخرج عليه أيّ أحد، بحيث يتعاون السكان على تنظيف ونظافة المحيط وصيانة ومراقبة سير مصالح الناس اليومية، مع التركيز على الأهمية التي يمنحها السكان للعقد المعنوي المبني على احترام وتوفير كبار وعقلاء القصر الذين بيدهم إدارة الشؤون العامة.
لدى الجولة التي قادتنا إلى داخل أسوار المدينة، لاحظا انضباطا محكما في تسيير أمور المدينة، بحيث يعتمد عقلاء وكبار القصر على أسس مدروسة ومختارة في ضمان سير الحياة اليومية بدون تعقيد وبسلاسة، مثال على ذالك يقول الدكتور نوح »نعمد كل أسبوعين أو 3 إلى اختيار مجموعة من الأطفال من الجنسين ما بين 12 و14 سنة ونقسمهم إلى أفواج، فوج يعهد إليه تنظيف الحي وفوج يقوم بإعداد الطعام عن طريق الهبات والمواد التي يقدمها أهل الحي للأطفال، فيما مجموعة أخرى من الأطفال تكلف بالذهاب إلى المكتبة لتلخيص كتاب أو قصة ما وعند منتصف النهار تجتمع الأفواج الثلاثة ويتناول الأطفال غذاءهم معا ويقوم كبار الحي بتقديم تلخيص عام عن اليوم يستفيد من خلاله الأطفال من الدرس اليومي ويتم تغيير الأفواج دوريا وهكذا يتعلم الأطفال في سنّ مبكرة حب النظافة وحب العلم والمطالعة والاعتماد على النفس.
قصر تفيلات استقطب اهتمام الزوار والمختصين في الداخل وخارج، حيث فاز بميدالية أحسن ثلاثة مشاريع عمرانية في إفريقيا، كما حظيت بزيارة الرئيس بوتفليقة، الذي أشاد بالتجربة واعتبرها أنموذجا يستحق أن يعمّم في الجزائر كلها. كما استقطبت التجربة أيضا أنظار السفير الأمريكي السابق بالجزائر، روبيرت فورد، وأعجب بها أيّما إعجاب واستضاف عبد الله نوح في الولايات المتحدة لتنشيط مجموعة من الندوات والمحاضرات حول التسيير الإنساني للمناطق الحضرية الذي يعتمد فيها، كما قال المتحدث على إشراك المواطن في التسيير اليومي لشؤون الحي أو المدينة، بحيث أقرّ السفير الأمريكي السابق، أن الولايات المتحدة والمجتمعات الغربية عموميا قد تكون سبقت هذا المجتمع في التطور التكنولوجي، لكنها محتاجة لأن تتعلم منه الكثير في إدارة الأحياء والمدن إنسانيا. كما أن أحد الغربيين وصف »تفيلالت« بالمدينة الفاضلة، نظرا لنمط الحياة فيها التي لا يحتاج سكانها إلى الهيئات الردعية الحديثة مثل مجالس القضاء والشرطة والمحاكم.
14 جمعية نسوية في بنى يزقن
القاعدة التي يتبعها سكان تفيلات في حياتهم اليومية لا تختلف كثيرا عن الحياة التي أرساها الأجداد منذ قرون في بنى يزقن، بحيث تعمل على تثمين جهود وأدوار جميع أعضاء المجتمع، إذ يستحيل أن نجد فرد أو مواطنا عاطلا أو دون أيّ دور في المجتمع الميزابي. في هذا الإطار، نجد مثلا في بنى يزقن 14 جمعية نسوية ناشطة، منها جمعية »تمكراس لبنى يزقن« المرسمة هذه الجمعية على غيرها من الجمعيات الأخرى تعمل على محو أمية النساء عن طريق دروس في اللغات والمواد المختلفة وهذا بحسب رئيسة الجمعية لتحسين المستوى العلمي للمرأة. الجمعية التي أنشئت في 1991 تعمل أيضا على تحسيس المرأة بقدراتها الذاتية وأهميتها كفرد في المجتمع. الجمعية قامت بإنشاء متحف »تجراؤرت نزمان« يضم مختلف مظاهر وأوجه الحياة السابقة للمرأة الميزانية بقصر تفيلالت وبنى يزقن، يهدف إلى المحافظة على هذا التراث من الاندثار ونقله للأجيال القادمة. في هذا المتحف عرضٌ مفصل لطريقة تزيين البيوت وأشكال الحياة اليومية للمرأة في منطقة ميزاب وكذا تقاليد الأعراس والأفراح في المجتمع النسوي الميزابي.
تفيلالت ليست مجتمعا أو مدينة ميتة، لكنها مدينة حيّة تكبر وتتطور يوميا استجابة للاحتياجات اليومية للسكان، حيث يضاف إليها مرافق ومساحات كلما استدعت الظروف إلى ذلك. وفي أفاق مستقبلية، تستعد المدينة لاحتضان حديقة خاصة للحيوانات والمزروعات يشترك فيها جميع أهل المدينة ويستفيد منها الجميع. ويقر عبد الله نوح، أن أنموذج تفيلالت يعطي مثالا على أننا نستطيع، حيثما كنا وأينما كنا، أن نجد حلولا لمشاكلنا، وأكد أنه وكل القائمين على المشروع مستعدون لتقديم خبرتهم في حال ما إذا تقرر إنجاز مشاريع مماثلة في جهات أخرى من الوطن.
ربورتاج: زهية منصر
منشور بجريدة الشروق الجزائرية يوم: 24 أفريل 2011م